الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد دلت عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: {وَقَد تَبَّ}، روي أنه لما نزل {وأنذر عشيرتك الأقربين} رقى الصفا وقال: «يا صباحاه» فاستجمع إليه الناس من كل أوب.فقال عليه الصلاة والسلام: يا بني عبد المطلب يا بني فهر إن أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلًا أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم.قال: «فإني نذير لكم بين يدي الساعة» فقال أبو لهب: تبًا لك ألهذا دعوتنا فنزلت.وإنما كناه والتكنية تكرمة لاشتهاره بها دون الاسم، أو لكراهة اسمه فاسمه عبد العزى، أو لأن مآله إلى نار ذات لهب فوافقت حاله كنيته، {أَبِى لَهَبٍ} مكي {مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ} {ما} للنفي {وَمَا كَسَبَ} مرفوع و{ما} موصولة أو مصدرية أي ومكسوبه أو وكسبه أي لم ينفعه ماله الذي ورثه من أبيه، أو الذي كسبه بنفسه، أو ماله التالد والطارف، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما كسب ولده.وروي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي {سيصلى نَارًا} سيدخل {سيصلى} البرجمي عن أبي بكر، والسين للوعيد أي هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته {ذَاتَ لَهَبٍ} توقد {وامرأته} هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان {حَمَّالَةَ الحطب} كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقيل: كانت تمشي بالنميمة فتشعل نار العداوة بين الناس.ونصب عاصم {حَمَّالَةَ الحطب} على الشتم وأنا أحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل من أحب شتم أم جميل.وعلى هذا يسوغ الوقف على {امرأته} لأنها عطفت على الضمير في {سيصلى} أي سيصلى هو وامرأته والتقدير: أعني حمالة الحطب، وغيره رفع {حَمَّالَةَ الحطب} على أنها خبر وامرأته أو هي حمالة {فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} حال أو خبر آخر.والمسد الذي فتل من الحبال فتلًا شديدًا من ليف كان أو جلد أو غيرهما، والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون تحقيرًا لها وتصويرًا لها بصورة بعض الحطابات لتجزع من ذلك ويجزع بعلها، وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة والله أعلم. اهـ.
ويدل عليه أنه قرئ: {وقد تب} أو الأول إخبار عما كسبت يداه والثاني عن عمل نفسه.{مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ} نفي لإِغناء المال عنه حين نزل به التباب أو استفهام إنكار له ومحلها النصب.{وَمَا كَسَبَ} وكسبه أو مكسوبه بماله من النتائج والأرباح والوجاهة والإِتباع، أو عمله الذي ظن أنه ينفعه أو ولده عتبة، وقد افترسه أسد في طريق الشام وقد أحدق به العير ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر بأيام معدودة، وترك ثلاثًا حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه، فهو إخبار عن الغيب طابقه وقوعه.{سيصلى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} اشتعال يريد نار جهنم، وليس فيه ما يدل على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون صليها للفسق، وقرئ {سيصلى} بالضم مخففًا و{سيصلى} مشددًا.{وامرأته} عطف على المستتر في {سيصلى} أو مبتدأ وهي أم جميل أخت أبي سفيان.{حَمَّالَةَ الحطب} يعني حطب جهنم فإنها كانت تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحمل زوجها على إيذائه، أو اليميمة فإنها كانت توقد نار الخصومة، أو حزمة الشوك أو الحسك، فإنها كانت تحملها فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقرأ عاصم بالنصب على الشتم.{فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} أي مِمَّا مُسِّدَ أي فَتِلَ، ومنه رجل ممسود الخلق أي مجدوله، وهو ترشيح للمجاز أو تصوير لها بصورة الخطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تحقيرًا لشأنها، أو بيانًا لحالها في نار جهنم حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنم كالزقوم، والضريع وفي جيدها سلسلة من النار، والظرف في موضع الحال أو الخبر وحبل مرتفع به.عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة». اهـ.
ويدل عليه قراءة عبد الله: وقد تب.روي أنه لما نزل: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قال: «يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، لا أغني لكما من الله شيئًا، سلاني من مالي ما شئتما» ثم صعد الصفا، فنادى بطون قريش: «يا بني فلان يا بني فلان» وروي أنه صاح بأعلى صوته: «يا صباحاه».فاجتمعوا إليه من كل وجه، فقال لهم: «أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلًا بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فافترقوا عنه، ونزلت هذه السورة. وأبو لهب اسمه عبد العزى، ابن عم المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقرأ ابن محيصن وابن كثير: أبي لهب بسكون الهاء، وفتحها باقي السبعة ولم يختلفوا في ذات لهب، لأنها فاصلة، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة.قال الزمخشري: وهو من تغيير الأعلام، كقولهم: شمس مالك بالضم.انتهى، يعني: سكون الهاء في لهب وضم الشين في شمس، ويعني في قول الشاعر: فأما في لهب، فالمشهور في كنيته فتح الهاء، وأما شمس بن مالك، فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع، كما جاء أذناب خيل شمس.قيل: وكني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه، ولم يذكره تعالى باسمه لأن اسمه عبد العزى، فعدل عنه إلى الكنية، أو لأن الكنية كانت أغلب عليه من الاسم؛ أو لأن مآله إلى النار، فوافقت حالته كنيته، كما يقال للشرير: أبو الشر، وللخير أبو الخير؛ أو لأن الاسم أشرف من الكنية، فعدل إلى الأنقص؛ ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم ولم يكنّ أحدا منهم.والظاهر أن ما في {ما أغنى عنه ماله} نفي، أي لم يغن عنه ماله الموروث عن آبائه، وما كسب هو بنفسه أو ماشيته، وما كسب من نسلها ومنافعها، أو ما كسب من أرباح ماله الذي يتجر به.ويجوز أن تكون ما استفهامًا في موضع نصب، أي: أيّ شيء يغني عنه ماله على وجه التقرير والإنكار؟ والمعنى: أين الغني الذي لماله ولكسبه؟ والظاهر أن ما في قوله: {وما كسب} موصولة، وأجيز أن تكون مصدرية.وإذا كانت ما في {ما أغنى} استفهامًا، فيجوز أن تكون ما في {وما كسب} استفهامًا أيضًا، أي: وأي شيء كسب؟ أي لم يكسب شيئًا.وعن ابن عباس: {وما كسب} ولده.وفي الحديث: «ولد الرجل من كسبه» وعن الضحاك: {وما كسب} هو عمله الخبيث في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم.وعن قتادة: وعمله الذي ظن أنه منه على شيء.وروي عنه أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا، فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي.وقرأ عبد الله: وما اكتسب بتاء الافتعال.وقرأ أبو حيوة وابن مقسم وعباس في اختياره، وهو أيضًا سيصلى بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام، ومريئته؛ وعنه أيضًا: ومريته على التصغير فيهما بالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير فيها.وقرأ أيضًا: حمالة للحطب، بالتنوين في حمالة، وبلام الجر في الحطب.وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: سيصلى بضم الياء وسكون الصاد؛ وأبو قلابة: حاملة الحطب على وزن فاعلة مضافًا، واختلس حركة الهاء في وامرأته أبو عمرو في رواية؛ والحسن وزيد بن علي والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن محيصن وعاصم: حمالة بالنصب.وقرأ الجمهور: {سيصلى} بفتح الياء وسكون الصاد، {وامرأته} على التكبير، {حمالة} على وزن فعالة للمبالغة مضافًا إلى الحطب مرفوعًا، والسين للاستقبال وإن تراخى الزمان، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة.وارتفع {وامرأته} عطفًا على الضمير المستكن في {سيصلى}، وحسنه وجود الفصل بالمفعول وصفته، {وحمالة} في قراءة الجمهور خبر مبتدأ محذوف، أو صفة لامرأته، لأنه مثال ماض فيعرف بالإضافة، وفعال أحد الأمثلة الستة وحكمها كاسم الفاعل.وفي قراءة النصب، انتصب على الذم.وأجازوا في قراءة الرفع أن يكون {وامرأته} مبتدأ، وحمالة، واسمها أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، وكانت عوراء.والظاهر أنها كانت تحمل الحطب، أي ما فيه شوك، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لتعقرهم، فذمت بذلك وسميت حمالة الحطب، قاله ابن عباس.فحمالة معرفة، فإن كان صار لقبًا لها جاز فيه حالة الرفع أن يكون عطف بيان، وأن يكون بدلًا.قيل: وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقال ابن عباس أيضًا ومجاهد وقتادة والسدي: كانت تمشي بالنميمة، ويقال للمشاء بها: يحمل الحطب بين الناس، أي يوقد بينهم النائرة ويورث الشر.قال الشاعر: جعله رطبًا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر.وقال الراجز: وقال ابن جبير: حمالة الخطايا والذنوب، من قولهم: يحطب على ظهره.قال تعالى: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم}.وقيل: الحطب جمع حاطب، كحارس وحرس، أي يحمل الجناة على الجنايات، والظاهر أن الحبل من مسد.وقال عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان: استعارة، والمراد سلسلة من حديد في جهنم.وقال قتادة: قلادة من ودع.وقال ابن المسيب: قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللات والعزى لأنفقنها على عداوة محمد.قال ابن عطية: وإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث، انتهى.وقال الحسن: إنما كانت خرزًا.وقال الزمخشري: والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال، وأنها تحمل الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها، كما يفعل الحطابون تحسيسًا لحالها وتحقيرًا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة.ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب، فقال: ويحتمل أن يكون المعنى: إن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه، انتهى.ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر، فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني، ولأفعلنّ وأفعلن؛ وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.فروي أن أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، قال لها: هل تري معي أحدا؟ فقالت: أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك.وإن كان شاعرًا فأنا مثله أقول: فسكت أبو بكر ومضت هي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله شرها» وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال. اهـ.
|